الإعلام الروسي يسحق الإعلام الأمريكي عربياً وينافس بقوة…لماذا؟

لماذا تنتصر “الدعاية الروسية” على الدعاية الأمريكية

نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط مؤخرا تقريرا يتناول أسباب نجاح RT العربية في الوصول إلى المركز الأول بين القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية على شبكة الإنترنت لعام 2018.

إجمالا، وعلى الرغم من تكرار الشعارات النمطية المناهضة لروسيا، والارتباط السياسي الواضح لهذا المعهد، إلا أن علينا الاعتراف بنزاهة موقف أصحاب التقرير في الاعتراف بهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية إعلاميا، وموضوعية تناولهم لنجاح RT العربية، إلا أنني أود الإضافة إلى ذلك التقرير 3 نقاط، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية لتسمح لأصحابه بالحديث عنها.

1- ليس لدى روسيا أي أجندة أو مصالح تتعارض مع مصالح العرب الأساسية، وكانت تلك الحقيقة سليمة قبل الأحداث السورية بنسبة 100٪، حيث كانت المصالح الأساسية والعملية لروسيا في المنطقة هي “تعزيز أواصر الصداقة والعلاقات التجارية بين الطرفين”. بالطبع لم يعد من الممكن التأكيد على أن المصالح الروسية في سوريا تستند الآن إلى ذلك المبدأ البسيط، وأن موقف روسيا لا يختلف مع مواقف بعض الدول العربية بشأن سوريا، لكن بإمكاننا الآن أيضا أن نؤكد على التزام روسيا بالحياد المطلق، وبمواقف الصداقة مع جميع الدول العربية بلا استثناء. فلا تحاول روسيا، مثلا، أن تزعزع استقرار المملكة العربية السعودية واللعب على تناقضاتها الداخلية، على خلفية الخلاف الروسي مع الرياض بشأن سوريا، لأن المصلحة الأساسية لروسيا هي الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وهو ما تتركز عليه كافة الجهود الروسية.

أما الوضع بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فإنه جد مختلف، حيث أنهم متورطون للحد الأقصى في الألعاب السياسية في المنطقة، من إزاحة لأنظمة، ومحاولات لزعزعة الاستقرار في عدد من الدول، وأعاود التأكيد متورطون “للحد الأقصى” في بلدان عربية، من العراق إلى فلسطين، ومن سوريا إلى السودان وليبيا، ولا يوجد في المنطقة لاعب أعظم تأثيرا منهم على زعزعة استقرار المنطقة.

فهل نندهش إذن لرد الفعل العربي تجاه ذلك؟

2- كذلك فإن لروسيا حق الحديث عن أهدافها بشكل واضح، لأن أهدافها ليست منصبّة على استغلال العرب، واعتصار مواردهم وأموالهم. وحتى “الجوائز” الصغيرة، التي لا يمكن إغفالها، مثل قاعدة طرطوس (والتي كانت موجودة قبل الأحداث السورية) متناهية الصغر، وهي قطعا ليست السبب لوجود روسيا في المنطقة.

وبالنسبة لسوريا وأي دولة مستعدة لإنشاء علاقات وثيقة مع موسكو، فإن روسيا، كما كان الأمر في زمن الاتحاد السوفيتي، هي دولة متبرعة أكثر منها دولة منتفعة. والعلاقات بين روسيا والعالم العربي دائما ما كانت مصلحة متبادلة للطرفين، وفي أحيان كثيرة تستفيد الدول العربية الشريكة على نحو أكبر مما تستفيد موسكو.

على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي “تحلب” حلفائها العرب، فما بالك بالأعداء، حتى أن المملكة العربية السعودية، وهي دولة غنية للغاية، تضطر الآن إلى الاستدانة من أجل تنفيذ برامجها الاجتماعية، لأن تكلفة شراء الأسلحة الأمريكية وسائر “الرشى” السياسية تخطّت كل الحدود المعقولة، وأصبحت تشكل عبئا كبيرا على المملكة.

إن روسيا تلعب على المكشوف، وكل شريك لروسيا يعرف ماذا يعطي وماذا يأخذ في المقابل، وروسيا تلتزم بجميع تعهداتها، وعلى خلفية ذلك يبرز مثال خيانة الأمريكيين للأكراد، الذين استغلتهم الولايات المتحدة الأمريكية لحرب جيرانهم من الشعوب الأخرى، ممن يشاطرونهم المعيشة، ثم تركتهم على قارعة الطريق مثل خرقة بالية مستهلكة، كمثال واضح على السياسة الأمريكية، وتناقضها مع السياسة الروسية.

إن ذلك كله يمنح RT العربية القدرة على التزام الحياد، والالتزام باستقلال وموضوعية التناول، وأن تكون منصة للقوى السياسية المختلفة، بما في ذلك المتناقضة والمتصارعة فيما بينها، وحتى للمعارضين السوريين، لأن الاستقرار بالمفهوم الروسي يبنى على توازن المصالح، ولابد من أخذ مصالح المعارضة السورية في الاعتبار. علاوة على ذلك، فإن RT العربية لا تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة (وكان ذلك أيضا سببا في هجوم أصحاب التقرير عليها، ما أثار دهشتي).

في المقابل، تبقى وسائل الإعلام الأمريكية أسيرة في قفص المصالح الأمريكية الضيقة، بكل ما تحمله من شعارات وأختام دعائية نمطية. فإسرائيل بالنسبة لهم، على سبيل المثال، هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بكل ما تحمله هذه المقولة من تبعيات الدعم المطلق وغير المشروط لها، وفي الوقت الذي تعتبر فيه الولايات المتحدة الأمريكية كل من حماس وحزب الله تنظيمات إرهابية، لا حق لها في إبداء الرأي.

إن الصحافة الأمريكية أحد أكثر الصحافات المحتكرة والمؤدلجة على مستوى العالم، والتي تعج بأكبر عدد من “الكليشيهات المحفوظة” والتابوهات، ولسوء طالع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذه التابوهات، أولا، لا تتسق مع الواقع بأي شكل من الأشكال، وثانيا، لا تتفق مع آراء معظم العرب.

وأعتقد أن ذلك أمر مفهوم للمشاهدين العرب، لكن المدهش هو عدم قدرة الباحثين الأمريكيين على فهم ذلك.

3- أما النقطة الثالثة والأساسية هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تحظى بأي سلطة أخلاقية، ولا حتى “قصة نجاح” يحتذى بها بعد فضائح التعذيب في سجن أبوغريب، وقضية سنودن بشأن تجسس أجهزة المخابرات الأمريكية على المواطنين الأمريكيين والأجانب، وقمع مظاهرات السود، وكوميدية فضيحة “رشاغيت”، وبعدما اتضح لنا جليا مدى تلاعب مؤسسات الإعلام الأمريكية بالرأي العام، وعقب الأزمة الاقتصادية عام 2008 وانهيار البورصات عام 2018.

أذكر جيدا تسعينات القرن الماضي، وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، حينما كان المعيار الأساسي أثناء اتخاذ الكثير من القرارات في روسيا هو “كما في الغرب”، و”كما في أمريكا”.

لقد ولّت تلك الأيام بلا رجعة، ولا يقتصر الأمر على روسيا وحدها، بل يشمل العالم أجمع، فقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكية مصداقيتها بشكل منهجي، وأصبحت تكذب بفجاجة على العالم وعلى نفسها. وإذا كان الشعب الأمريكي لا يزال خاضعا لمؤسسات دعايته، فإن أحدا لم يعد يصدّق هذه المؤسسات خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت محاولات الولايات المتحدة تعليم الجميع أصول حقوق الإنسان، بعد سجن أبوغريب، وقضية سنودن، تثير الضحك والسخرية. وليس تحوّل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من “القوى الناعمة” إلى العقوبات والحروب في تعامله مع العالم، سوى رد فعل واعتراف أمريكي بهذه الحقيقة، حتى وإن كان اعترافا غير معلن حتى اللحظة.

قد لا تكون روسيا حتى الآن مثالا يحتذى به، لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قطعا مثالا يحتذى به.

يشير ما سبق إلى حقيقة متناقضة، هو أن وصفة النجاح لأي حملة إعلامية ضد الولايات المتحدة الأمريكية هي أن تقول الحقيقة، لأن الحقائق الموضوعية السلبية حول الولايات المتحدة الأمريكية من الكثرة بحيث لا يتعيّن على أي أحد أن يبتكر شيئا من بنات أفكاره، وإنما عليه ببساطة قول الحقيقة.

في المقابل فإن الولايات المتحدة استسلمت لإغراء وصم أي معلومة سلبية عنها بالـ”دعاية”، بينما ذهب تقرير معهد واشنطن في ذلك بعيدا، حتى أنه لم يعد يرى في تعدد وتنوع مصادر المعلومات، والتحقق من المعلومة من خلال الشك، المتمثل في شعار قناة RT “إسأل أكثر” سوى شر مطلق. وكل من تسوّل له نفسه بنطق الحقيقة عن الولايات المتحدة الأمريكية، هو عدو لأمريكا، و”دعاية”، وبالتالي تصبح RT الروسية “دعاية روسية”، لكن صراع الحقيقة وكل المحاولات الأمريكية لطمسها سوف يكون مصيره الفشل.

فالنخب الأمريكية، والمجتمع الأكاديمي قد أصبحوا ضحايا للتنويم المغناطيسي الذي يمارس عليهم، وأصبحوا عاجزين عن فهم والاعتراف بأن السبب في الفشل إنما هو سبب داخلي، وليس خارجيا. وأنه إذا كان الخلل قد أصاب النخب الأمريكية في تناولها الواقع بموضوعية، فإن ذلك يعني بالنسبة لي، كمراقب من الخارج، عجز الولايات المتحدة الأمريكية على نحو جذري عن الخروج من أزمتها.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

المصدر: روسيا اليوم