الشخصية التي غيرت خريطة السيطرة في الشمال السوري

الشخصية التي غيرت خريطة السيطرة في الشمال السوري

التقرير منقول من موقع تلفزيون سوريا

منذ إعلان “الفيلق الثالث” التابع للجيش الوطني، في العاشر من تشرين الأول الجاري، القبض على الخلية المسؤولة عن عملية اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف الملقب بـ”أبو غنوم” وزوجته الحامل في مدينة الباب شرقي حلب

برزت إلى واجهة الأحداث المتسارعة في الشمال السوري أخيراً شخصية القيادي الغامض “أبو سلطان الديري” متزعم “أمنية فرقة الحمزة” والمتهم الرئيسي في تدبير عملية اغتيال “أبو غنوم”، فمن هو “أبو سلطان”؟

وهل فعلاً كان المرافق الشخصي للواء جامع جامع الذي شغل منصب رئيس المخابرات العسكرية في قوات النظام في المنطقة الشرقية؟

لم يكن كثير من السوريين قد سمعوا بالقيادي الأمني “أبو سلطان” قبل أن يذيع صيته خلال الأيام الماضية، وذلك بعد إعلان القبض عليه وعلى مجموعته المتورطة في اغتيال “أبو غنوم”

وعلى الرغم من تسلم “أبو سلطان” مناصب بارزة في فصائل كبيرة داخل الساحة السورية وتنقله بين محافظات عدة إلا أنه بقي مجهولا في الإعلام، ولم تظهر له صور ما خلا صوراً قليلة إلى جانب قيادات في الصف الأول في الجيش الوطني خلال السنوات الماضية.

من هو “أبو سلطان الديري”؟
محمد أحمد المغير من مواليد محافظة دير الزور وسكن حي العرضي وسط المدينة قبل مغادرته إلى الشمال السوري بعد سيطرة “تنظيم الدولة” (داعش) على المحافظة في حزيران 2014

وبخلاف ما شاع، فأصول “أبو سلطان” لا ترجع إلى محافظة حماة، ولكن يمكن تفسير هذا الخطأ بأنه خلط بين أصوله وأصول والدته المنحدرة من حماة، أو لأنه أطلق على نفسه لقب “أبو أحمد الحموي” في فترة من الفترات كما سنرى.

ولد “أبو سلطان” في محافظة دير الزور وترعرع في حي “المطار القديم”، قبل أن تنتقل عائلته إلى حي العرضي الذي عاش وافتتح فيه محلاً لبيع الهواتف المحمولة، حيث يصفه أحد جيرانه بأنه كان شخصاً “على خلق” وبأنه تمتع بعلاقات طيبة مع الجميع.

ويضف جار “أبو سلطان” السابق لموقع “تلفزيون سوريا”، أن محمد المغير أو “أبو أحمد” نسبة إلى أكبر أبنائه، كان ذا شخصية “اجتماعية وودودة”، ولم يحصل أن كانت له أي عداوات في الحي

نافياً “جملة وتفصيلاً” المعلومات التي شاعت على وسائل التواصل الاجتماعي حول أن “أبو سلطان” كان المرافق الشخصي لـ”جامع جامع”، مؤكداً أن “أبو سلطان” كان قد أنهى خدمته العسكرية الإلزامية منذ سنوات عند بداية الثورة، وأنه لا علاقة تربطه بأجهزة أمن النظام.

وعلى العكس فمع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كان “أبو سلطان” من أوائل المشاركين في الحراك الثوري، وبعد قمع النظام السوري للمظاهرات السلمية بالسلاح وسقوط الضحايا بأعداد كبيرة، كان ممن حملوا السلاح وانضم إلى “كتيبة المهام الخاصة” في “الجيش الحر” داخل المدينة، وفقاً للمصدر ذاته.

وتدرج “أبو سلطان” في المناصب وتسلم عدة مراكز في كتيبة “المهام الخاصة”، كما أصيب عدة مرات، وكان أخطرها عندما انفجرت سيارة ملغمة بجانبه في أثناء تقدمها نحو مقر “الشرطة العسكرية” التابع للنظام السوري في الشارع العام بمدينة دير الزور خلال إحدى المعارك، حيث تعرض لجروح بليغة ولم يعثر عليه إلا بعد ساعات عدة، ما تسبب في فقدانه النطق بشكل جزئي، وتغير صوته الحقيقي نتيجة دخول عدة شظايا في رأسه وعنقه.

من “المهام الخاصة” إلى أرفع المناصب في “أحرار الشام”
كانت سنة 2013 مفصلية في حياة “أبو سلطان” الذي قرر الخروج من مدينة دير الزور بعد خلافات كبيرة مع “أبو بكر” قائد كتيبة “المهام الخاصة”، حيث غادر “أبو سلطان” المدينة ولم تعرف وجهته التي ظلت مجهولة لفترة من الوقت، بحسب من عرفوه، قبل أن يشيع خبر توليه منصب “الأمير الأمني” لـ”حركة أحرار الشام” في محافظة الرقة، والتي كانت حينئذ مركز الثقل للحركة وعاصمتها الإدارية.

كان تكليفه بهذا المنصب مثار استغراب جميع من يعرفه، خاصة وأنه تسلم هذا المنصب في وقت حرج من عمر الحركة التي ستدخل في صدام عنيف مع “تنظيم الدولة” (داعش) ينتهي بطرد الحركة من محافظة الرقة مطلع العام 2014. لم يفصح “أبو سلطان” عن الطريقة التي حدث بها وصوله إلى هذا المنصب الرفيع في الحركة

التي كانت تعد بين أكثر الفصائل رسوخاً في الساحة السورية وأكبرها في ذلك الوقت، لكن مصادر مطلعة رجحت أن “أبو سلطان” الذي بدأ في تلك الفترة العمل باسم “أبو أحمد الحموي” وصل إلى هذا المنصب بدعم من أخواله القياديين في الحركة آنذاك.

ومع خروج “أحرار الشام” من الرقة فضل “أبو سلطان” العودة إلى دير الزور، على عكس جميع القيادات الأخرى التي انتقلت إلى مدن الشمال السوري، حيث التحق بصفوف الحركة في دير الزور وبقي فيها إلى أن سيطر “تنظيم الدولة” على المحافظة عام 2014.

من محاربة “تنظيم الدولة” إلى مبايعته
وعقب سيطرة “تنظيم الدولة” على دير الزور بفترة بسيطة بدأت علاقته تتوتر مع الكتائب والمقاتلين من أبناء المحافظة، والذين أعطاهم التنظيم في بداية الأمر الأمان على أنفسهم وأسلحتهم بعد أن منعهم من مغادرة المدينة، وتضمن العرض البقاء في قطاعاتهم المقابلة لقوات النظام والاستمرار في المرابطة من دون الحاجة إلى مبايعة التنظيم

لكن وكما تبين مرات عديدة فإن التنظيم الذي لم يعرف عنه الالتزام بعهد ولا ذمة بدأ باعتقال وتصفية الناشطين وقادة “الجيش الحر”، مما اضطر الكثير من المقاتلين إلى مبايعة التنظيم

إلى أن يجدوا طريقاً للخروج والنجاة بأنفسهم من قبضته، ولم يكن “أبو سلطان” العدو القديم للتنظيم استثناء، فكان من بين المبايعين بعد أن خسر معركته مع التنظيم للمرة الثانية وبات هو وجميع مقاتلي المدينة عملياً محاصرين بين جبهتي قوات النظام والتنظيم.

“أبو سلطان الديري” الوجه الآخر لشخصية “أبو أحمد الحموي”
للمرة الثانية في رحلته، كان الحظ حليف “أبو سلطان” الذي استطاع الهروب من محافظة دير الزور إلى الشمال السوري، على عكس الكثير من المقاتلين والقادة ممن تعرضوا للتصفية في ساحات مدينتهم التي دافعوا عنها لأكثر من 3 سنوات وخاضوا خلالها أشرس المعارك مع قوات النظام.

ورغم الأهمية المفصلية لهذه الفترة من حياة “أبو سلطان” التي شهدت التحول الرمزي الأخير في شخصيته الرسمية من “أبو أحمد الحموي” القيادي “المحبوب” في محافظتي الرقة ودير الزور إلى “أبو سلطان الديري” المتهم بقتل ناشطين سلميين في الشمال السوري، إلا أنها تميزت بالغموض وبأن المعلومات بحوزة أصدقاء “أبو سلطان” والمقربين منه معدومة تقريباً

وعلى أية حال فلا يبدو أنها حملت أحداثاً درامية في حياة صاحبها، فقد ظهر بداية الأمر في صور مع قادة فصيل “السلطان مراد” ضمن النشرات المعتادة التي تصدر عن اجتماعات الفصيل، ثم انتقل لأسباب غير معلومة إلى “فرقة الحمزة”

وتسلم منصب القائد الأمني للفرقة، حيث ستتابع الأحداث التي واكبتها المتابعات الإعلامية المكثفة منذ مساء الجمعة (7 تشرين الأول 2022)، مع اغتيال “أبو غنوم”، لينتقل اسم “أبو سلطان الديري” من الظلال إلى وسائل الإعلام وأحاديث السوريين، وصولاً للتطورات الأخيرة مساء يوم الإثنين التالي للاغتيال مع الكشف عن تحديد هوية ثلاثة أشخاص كمشتبه بهم بعد تفريغ كاميرات المراقبة.

حيث بثّ “الفيلق الثالث” في الجيش الوطني اعترافات لبعض أفراد “خلية الاغتيال”، أكّدوا فيها تبعيتهم للمفرزة الأمنية التابعة لـ”فرقة الحمزة”، والتي تتخذ مقرّها في مبنى مدرسة الزراعة في مدينة الباب، كما أكدوا تورطهم في تنفيذ اغتيال “أبو غنّوم” بأوامر صادرة من قيادي في “أمنية الحمزات” يدعى “أبو سلطان الديري”

وبالتزامن نشر الفيلق صورة تؤكد اعتقال “أبو سلطان”، في حين يسود الميدانَ الانتظار وترقب هدوء المعارك التي امتدت على مناطق واسعة من الشمال السوري إثر الاغتيال لتقديم المتهمين إلى المحاكمة.

فمنذ صباح الأربعاء 12 تشرين الأول الجاري، اندلعت الاشتباكات التي بدأت في مدينة الباب، ووصلت إلى منطقة عفرين شمال غربي حلب، بعد دخول “هيئة تحرير الشام” على خط المواجهة ضد الفيلق الثالث، واستمرت الاشتباكات لثلاثة أيام قبل أن تنتهي بسيطرة “تحرير الشام” على عفرين وطرد الفيلق الثالث منها

بينما يشهد ريف حلب هدوءاً حذراً منذ السبت الماضي، بعد ليلة طويلة من الاشتباك والمفاوضات بين “الفيلق الثالث” وحلف “هيئة تحرير الشام” (يضم “فرقة الحمزة” و”فرقة السلطان سليمان شاه”، و”حركة أحرار الشام”).

أسئلة تثار.. كيف يتحول الثائر إلى مجرم؟
حفلت الثورة بشخصيات معارضة وقادة عسكريين شاهد السوريون تغيرات كبيرة رافقت وصولهم إلى مراكز النفوذ والسلطة، ليثار السؤال عن الكيفيات والدوافع التي تدفع من وصلوا إلى مراكز قيادية في صفوف المعارضة لاتباع مناهج غير أخلاقية

تتشابه حد التطابق مع ممارسات النظام السوري الذي يفترض أنهم ثاروا ضد ظلمه وبطشه الوحشي وانتهاكه لحق التظاهر السلمي، وعن الظروف التي قد تحول الثائر ضد الطغيان إلى مجرم يرتكب أفظع الأفعال مما يناقض أبسط الافتراضات الأخلاقية في ثائر.

وتعليقاً على هذه الأسئلة يقول الكاتب والناشط خضر سلمان: أيا ما يكن فما هو واضح حتى الآن أن خطأ الحسابات يدفع لاتخاذ قرارات تستخف بالحرمات الإنسانية والكرامة، بالشكل الذي يفضي إلى أن يتمكن غضب الناس وما تسميه روزا لوكسمبورغ العفوية الخلاقة للجماهير

تتمكن من التبلور في ردات فعل يتفاجأ معها أصحاب السلوك الطغياني بوجود الحقوق والكرامة، مع اعتيادهم اتخاذ هذا النوع من القرارات من دون فقدان السيطرة على نتائجها، لتكشف مآلات الأحداث خيوطا وعلاقات سلطة تنسج في الخفاء ينتظمها العادي والمألوف والمبتذل من أسباب ومقدمات وراء ادعاءات النقاء والبطولة. بالطبع لم يكن الجمهور من السوريين مخطئين حين أحسنوا الظن برموز ثورتهم ولا كل الثوار طغاة قادمين

فللثورة السورية أبطال أفذاذ وحقيقيون، ولها جنودها المجهولون الذين عادة ما يكونون ضحايا أولئك الآخرين. وتذكّر حادثة اغتيال الناشط “أبو غنوم” مع زوجته الحامل، في فداحتها وفي التبعات التي انجرت عنها، بحادثة مشابهة حين سلم “تنظيم الدولة”

ضمن صفقة تبادل مع “حركة أحرار الشام” جثة الطبيب المحبوب حسين سليمان “أبو ريان” مشوهة بفعل التعذيب، ويذكر في هذا الصدد ما تردد في ذلك الوقت من رد عناصر تنظيم الدولة بأنهم فجروا رأسه برصاصة متفجرة، وقطعوا أذنه ومثلوا بجثمانه “بالخطأ”.

ويضيف سلمان: ربما تبدل أسماء بطل هذه الحكاية مع تبدل أحواله، مع وصولها إلى نهاياتها هذه، قد تبدو علامة على الوصولية، ونهمٍ للتمكن، أو هي نمط لتدبُّر حياة وراءها روح متقاعسة عن الفضيلة. قد يشي شيء ما بطبيعة ثورية وحالمة لا تهدأ في جنونها الخاص، لكن لا ينبغي أن يكون شيء بعينه بطاقة عبور إلى القلوب، خاصة حين يؤخذ بالاعتبار مختبر السلطة

التي تتحدى في الممارسة أكثر التصورات الثورية النظرية نقاء وأخلاقية، فلطالما كانت السلطة كما عرفتها المجتمعات البشرية قبل الحديثة والحديثة تعني بشكل مباشر تنظيم عنف واسع النطاق وممنهج وضبطه بالشكل

الذي يفضي إلى استتباب الأوضاع لمصلحة منظِّميها، ويعني ذلك في ما يعنيه إطلاق أوامر السجن والقتل والحصار والتقييد والتنكيل والمنع والمصادرة وهو ما تحتكره الدول في مسعاها القيام بوظائفها الاجتماعية وضمان الاستقرار.

ويختم سلمان حديثه بالقول: لتخيل دويخة الانحراف هذه التي يختبرها من يعمل في مراكز القرار العسكري والأمني، يمكننا تأمل المناخ النفسي الذي صدر عنه الثوري الروسي فلاديمير لينين -الذي تنقل بين المنافي والعمل السري

وقتل شقيقه على يد جنود القيصر قبل انتصار الثورة في روسيا وتسلمه قيادة بلاده- في اللحظة التي قال فيها: “يوم واحد في السلطة يعادل سنوات خارجها”.