إسرائيل ودورها في المخطط المحاك ضد روسيا

إسرائيل ودورها في المخطط المحاك ضد روسيا

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

صرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بأن لدى الكرملين معلومات محددة حول قضية الوكالة اليهودية “سخنوت”.
وعلى الرغم من ذلك رفض أن يعلق على أحكام القضاء الروسي، وقال حرفيا إن المحاكمة “لا تزال جارية، ولا يمكن للكرملين أن يعلّق على قضية لا زالت متداولة في المحاكم”.
وكانت الخارجية الروسية على لسان المتحدثة الرسمية باسمها، ماريا زاخاروفا، قد قالت تصريحا مشابها، يوم الثلاثاء الماضي، 26 يوليو الجاري، إلا أنها أعربت عن أسف موسكو من “المواقف غير البناءة لإسرائيل، والسياسة التي تنتهجها في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك موقف تل أبيب من الوضع في أوكرانيا”، منتقدة تصريحات إسرائيل لدعم السلطات الأوكرانية.
وتطالب دعوى قضائية إدارية من وزارة العدل الروسية بتصفية الوكالة اليهودية “سخنوت”، واستبعادها من سجل الدولة الموحد للكيانات القانونية، بينما قالت المحكمة أنها ستنظر في استئناف إدارة موسكو في هذا الشأن. وتعني الوكالة اليهودية، كما نعلم، بضمان العلاقات بين اليهود حول العالم، وقضايا الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وقد تأسست عام 1929، وتعمل المكاتب التمثيلية للوكالة في روسيا منذ عام 1989.
مرت العلاقات الروسية الإسرائيلية والسوفيتية الإسرائيلية بعدد من المراحل، لعل أبرزها انقطاع تلك العلاقة بالكامل منذ عدوان عام 1967، وحتى عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولما كانت إسرائيل قد ارتمت في أحضان الإمبريالية العالمية، بدءا من بريطانيا “العظمى”، وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية “العظمى” كذلك، فربما يشرح لنا ذلك السر وراء الحماس الملفت الذي تنتهجه إسرائيل في دفاعها المستميت عن أحادية القطبية، واستماتتها في إرضاء السيد الأمريكي، الجمهوري أو الديمقراطي على حد سواء، فلا فرق لدى إسرائيل بين ترامب وبايدن، لأن دولة الاحتلال، وفقا لتعريفات الأمم المتحدة، تحتاج إلى الشرطي الذي يضمن أمنها وحدودها، حتى لو اضطر من أجل سواد عيونها إلى تدمير منطقة الشرق الأوسط عن بكرة أبيها، وقد فعل ويفعل ذلك على أرض الواقع في سوريا والعراق وليبيا واليمن.
إن غالبية المجتمع الدولي، وأعني هنا المجتمع الدولي بالمعنى الشامل للكلمة، وليس المجتمع الدولي كما يتخيله الغرب، يعي ويدرك تماما مدى الغطرسة والاستعلاء والعنصرية والتمييز الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل، ويعرف حجم الاضطهاد الذي يجعل الشعب بأكمله معتقلا ورهينة للسجان الإسرائيلي.
على الجانب الآخر من العالم كانت أوكرانيا تستعد لتشغل موقع إسرائيل أوروبا، طفلة الولايات المتحدة الأمريكية المدللة، وقفازها المفضل، الذي كان سيتلاعب بالأمن الروسي من خلال بناء أكبر قاعدة لـ “الناتو” في شرق أوروبا، وكان ذلك سيصب بشكل أو بآخر في مصلحة المشروع التوسعي الصهيوني، لما نراه من ارتباط عضوي بين أوكرانيا وإسرائيل، الأمر الذي كان سيساعد في السيطرة على المزيد من ثروات ومقدرات الشرق الأوسط.
لم ولا تعتزم روسيا مواجهة إسرائيل بأي شكل من الأشكال، إلا أن روسيا تدرك تماما المخطط الإسرائيلي لاستخدام اللوبي اليهودي حول العالم، وحتى في الداخل الروسي، في تمرير الكثير من المسارات بشأن العلاقات بين روسيا وإيران، خاصة فيما يتعلق بالملف النووي، أو بالملف السوري، وما فعلته روسيا علانية أمام الجميع، وفتحت أوراقها على الطاولة بدلا من الصفقات المشبوهة تحت الطاولة، هو إنشاء مسار أستانا، الذي يضم الدولة عضو “الناتو”، تركيا، وهو المسار الذي أسفر عن إنجاز وقف إطلاق النار، وإنشاء مناطق التهدئة، ولا زال يساعد في حلحلة الأزمة السورية، انتظارا للفرج السوري السوري.
أقول إن روسيا دائما ما اتسمت بالحذر في تعاملها مع إسرائيل، لما تعرفه أن إسرائيل تعني الولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو”، ولم ولا ترغب روسيا في وقوع أي صدامات بين الدول العربية وإسرائيل في ظل الوضع الراهن. إلا أن ما نسمعه في الفترة الأخيرة من الدولة المحتلة، بشأن “الغزو” و”الاحتلال” و”العدوان” الروسي، في وصف العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، وما يترامى إلى مسامعنا بشأن المساعدات، بل والإمداد بالمرتزقة، يصيبنا بالدهشة على أقل تقدير، من قدر الصفاقة والوقاحة وانعدام المبادئ ولا أقول الأخلاق.
إن العالم اليوم يمر بمرحلة مصيرية تحتم الاختيار بين مصيرين: فإما الانسحاق أمام النظام العالمي الراهن، الذي يرى فيه “الغرب الجماعي” نفسه، تحت راية الولايات المتحدة الأمريكية، سيد العالم، والآمر الناهي والمتحكم فيه، وإما العودة إلى قواعد القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد على احترام مبدأ المساواة في السيادة بين الدول.
إن القضية الفلسطينية، وبحكم تاريخها الطويل، والمعاناة الصعبة للشعب الفلسطيني الأبي، قد أصبحت أم القضايا الدولية التي ينبغي حلها حتى تبدأ بقية القضايا في الحلحلة، بعد أن يختفي أحد الأسباب الأساسية في وجود حركات المقاومة، والنضال، والممانعة، ومكافحة التطبيع، وغيرها مئات المبادرات والحركات والتكتلات التي تقوم أساسا على مجابهة ظلم وتمييز وعنصرية إسرائيل. وأنا على يقين أنه لا يمكن أن تكون هناك عدالة دولية، ولا يمكن أن تستعيد هيئة الأمم المتحدة مكانتها، وأن تسود قوانينها، ومبدأ المساواة في السيادة بين الدول، دون استعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه.
ترى، هل لهذا السبب تتآمر إسرائيل ضد روسيا؟ لمنع قيام نظام عالمي متعدد القطبية، وسعيا وراء بقاء الحال على ما هو عليه، لما في ذلك من تداعيات سلبية على عودة القانون الدولي الحقيقي بدلا مما يسميه الغرب “النظام القائم على القواعد”، والذي وصفه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في حديثه أمام ممثلي دول الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا منذ أيام بأنه نظام ذو قواعد “تختلف من حالة لأخرى، ولا توجد له معايير موحدة أو مبادئ عامة، باستثناء قاعدة واحدة: إذا ما رغب الغرب في شيء، فعلى الجميع الامتثال. ومن لا يفعل ذلك سوف يعاقب”. فتداعيات ممارسة الأمم المتحدة لدورها الحقيقي، وقدرتها على إجبار الدول على الامتثال للقانون الدولي، تعني ببساطة امتثال إسرائيل للقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن في 22 نوفمبر 1967، على سبيل المثال لا الحصر.
يعني ذلك أن يأتي يوم تتغير فيه الظروف، ربما لا يكون هذا اليوم بعيدا، ويتم الاتفاق على عملية عسكرية خاصة ضد إسرائيل، وقد تشارك فيها الدول العربية وتركيا وإيران، بتأييد من دول عظمى مثل روسيا والصين، لإجبار إسرائيل وحلفائها على إخلاء الأراضي الفلسطينية التي احتلتها بعد 1967، وإخلاء المستوطنات، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة بكامل سيادتها، وعاصمتها القدس الشرقية. ترى هل ذلك ما يرعب إسرائيل من نجاح روسيا في تحقيق أهدافها من العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا؟
أم ترى تراهن إسرائيل على زعزعة استقرار الداخل الروسي، وتفتيت روسيا، فيتاح لها من خلال إسرائيل الأوروبية/أوكرانيا، السيطرة على كنوز وثروات روسيا، مثلما سنحت الفرصة للكثير من رجال الأعمال اليهود والأمريكيين بنهب ثروات الاتحاد السوفيتي وسرقة مقدرات الشعب الروسي، تسعينيات القرن الماضي، العصر الذهبي الذي لا يفارق أحلام أوروبا، ويسعون لتكراره من خلال دعمهم لأوكرانيا بالسلاح والعتاد وعلف المدافع البشري؟
لقد تلاعبت إسرائيل كذلك، من خلال منظمات يهودية موجودة على الأراضي الروسية، ومن خلال اللوبي اليهودي المنتشر في قطاعات الفنون والثقافة، من تشجيع عدد من الشخصيات المعروفة فنيا وثقافيا على مغادرة البلاد بعد بدء العملية العسكرية الخاصة، وتبني مواقف ضد سياسة القيادة الروسية. وتجري على قدم وساق حملة شعواء، بمساعدة المعارضة المأجورة، التي تتلقى تمويلا سخيا من أجهزة استخبارات غربية، لتشويه سمعة روسيا، وسمعة الجيش الروسي، ونشر أخبار كاذبة، خاصة وقد قامت إدارة “يوتيوب” بمنع جميع القنوات التي تتبنى وجهة نظر الدولة الروسية، وأفرغت الساحة بالكامل على هذه المنصة للمعارضة وأنصارها. ترى هل من قبيل الصدفة أن تجد تلك الأبواق مستقرا لها في إسرائيل؟
لقد أصاب الهوس القادة الإسرائيليين، وحينما شعروا، ولا زالوا يشعرون بفشل هذا المخطط، بعد تقدم القوات المسلحة الروسية على الجبهات الشرقية، وخلقها لوضع عسكري على الأرض مخالف تماما لكافة توقعات الغرب، وها نحن نراهم يرتكبون الحماقات تلو الحماقات، حتى وصلت الأمور لدرجة تهديدهم باتخاذ إجراءات ضد التواجد العسكري الروسي في سوريا. كذلك نستمع إلى تصعيد في لهجة الخطاب ضد إيران، فهل يسعى الإسرائيليون لإضرام النار في برميل البارود في الشرق الأوسط، علما بأن المنطقة بأسرها شديدة الحساسية والدقة، ولن تكون هناك دولة واحدة في المنطقة بمعزل عن الخطر.
لهذا تتبنى الدولة الروسية سياسة حكيمة فيما يتعلق بوجود القوات الروسية على الأراضي السورية، ولهذا السبب لا تنزلق تلك القوات في مواجهة القوات الإسرائيلية، حتى حين اعتداء الأخيرة على الأراضي السورية، فلهذه القوات مهمة محددة، وهي الحفاظ على نظام وقف إطلاق النار ومناطق التهدئة بالتعاون مع أطراف مسار أستانا (إيران وتركيا)، ولن تستخدم روسيا قواتها في مواجهة إسرائيل، لمعرفتها التامة بهدف تلك الاستفزازات، وسببها، فإسرائيل تسعى لعرقلة التغيرات في المنطقة والعالم، حفاظا على وضعها المتميز تحت رعاية شرطي المنطقة، الولايات المتحدة الأمريكية، والتعددية القطبية حتما ما ستضر وضع دولة الاحتلال.
أما روسيا، فالموقف الروسي من القضية الفلسطينية ومن احتلال الجولان موقف ثابت وواضح ومحدد وغير قابل للمناقشة، كما أن روسيا رفضت نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وتؤكد دائما على حقوق الشعب الفلسطيني، ولها علاقات جيدة مع سوريا ومع إيران.
تسعى إسرائيل بكل الوسائل المتاحة إلى السيطرة على جميع مصادر الطاقة العربية، خاصة على الغاز اللبناني، وتأمل أن تتوتر الأوضاع في سوريا، وأن ينشب خلاف ينهي نظام التهدئة، وتدخل سوريا في حرب أهلية، ويتم تقسيمها، حتى تتهيأ الظروف لإسرائيل للسيطرة الكاملة على لبنان، وليس صدفة أن تبني الولايات المتحدة الأمريكية أحد أكبر سفاراتها في لبنان، أملا في سيطرة أمريكية إسرائيلية على البلاد، ولعل من أهم العوامل التي أثرت على ذلك بشكل مقصود تدهور الاقتصاد اللبناني والأزمة التي يعانيها بما في ذلك جراء تفجير المرفأ.
أعتقد أن ما ذكره المتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بشأن “المعلومات المحددة” لأنشطة وكالة “سخنوت” اليهودية يتخطى تلك الوكالة إلى أنشطة أخرى لمنظمات/تنظيمات أخرى تدعو إلى مسارات ضد مصلحة الدولة الروسية، وربما شبكات تآمر تتضح صورتها أكثر فأكثر، وكذلك ارتباطها بمؤسسات استخبارية غربية، وأوكرانية، وأتصور أننا بصدد أضرار لحقت، أو ربما كانت ستلحق بالأمن القومي الروسي.
مع الوقت بدأنا الآن في الاستماع إلى نبرة أوروبية جديدة، مفادها أن أوروبا لن تتمكن من الاستغناء عن الغاز الروسي في المستقبل القريب، وقد استمعنا إلى نداءات وصراخ عالمي بشأن قضية أزمة الغذاء العالمية، بعد أن ثبت للجميع أن العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا جاءت بعكس النتيجة المتوقعة. إلا أن الأهم في ذلك هو عجز الغرب عن قراءة طبيعة الإنسان الروسي، الذي لا يمكن أن يرضخ إلى الشروط أو الإملاءات، خاصة إذا ما كانت تهدف لزعزعة أمنه واستقراره وتنتقص من هيبة وكرامة وسيادة دولته. وأظن أن روسيا ستلقن العالم درسا جديدا، كما لقن الاتحاد السوفيتي النازية درسا تاريخيا يحاول الغرب اليوم أن يمحوه ويزيفه ويكتب تاريخا آخر.
لم يعي أصحاب القرار في واشنطن وتل أبيب أن عرقلتهم لتحول العالم إلى التعددية القطبية مرتبطة لا بتهديد الأمن القومي لروسيا فحسب، وإنما للصين وجميع دول “بريكس” والبلدان العربية والشرق الأوسط وغالبية بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأعتقد أن كثيرا من القادة الأوروبيين الآن يدركون أنهم تورطوا في معركة خاسرة، تنعكس اليوم على انهيار اقتصاداتهم وتصدع أنظمتهم السياسية، وكل الوعود الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية بشأن “انهيار روسيا من الداخل”، لم تكن سوى أضغاث أحلام، وأوهام إمبراطورية قديمة، سيدفع ثمنها المواطن الأوروبي والأمريكي من دمه ولحمه وعرقه.
ختاما، أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال محادثة هاتفية مع نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن موسكو ستحقق جميع أهداف ومهام العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وهو ما أتفق فيه قلبا وقالبا مع الوزير الروسي، وأثق في انتصار روسيا على الفاشية الصهيونية الأمريكية الغربية.